منتديات عين تغات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عزيزي الزائر اهلا وسهلا بك في منتديات عين تغات يسعدنا ويشرفنا ان تسجل في المنتدى وتكون من ضمن اعضائه، شكرا لزيارتكم لمنتدانا
مع تحياتي أخوكم محمد الأمين
منتديات عين تغات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عزيزي الزائر اهلا وسهلا بك في منتديات عين تغات يسعدنا ويشرفنا ان تسجل في المنتدى وتكون من ضمن اعضائه، شكرا لزيارتكم لمنتدانا
مع تحياتي أخوكم محمد الأمين
منتديات عين تغات
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


برامج،كتب ومعلومات طبية برامج محادثة برامج الحماية برامج الانترنت برامج المحادثات برامج إسلامية ألعاب الكمبيوتر
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الرحيل‏ ...باسم إبراهيم عبدو

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمد الأمين

محمد الأمين


عدد المساهمات : 141
تاريخ التسجيل : 14/03/2011
العمر : 34

الرحيل‏ ...باسم إبراهيم عبدو Empty
مُساهمةموضوع: الرحيل‏ ...باسم إبراهيم عبدو   الرحيل‏ ...باسم إبراهيم عبدو Icon_minitimeالخميس يوليو 07, 2011 1:21 pm

جسر الموت جسد بلا روح. جسد من الأسمنت المسلّح. أنهكته الدبابات والمجنزرات والأقدام العارية. مشت بين جنباته جموع بشرية في الذهاب والإياب من سن الفيل إلى بقية أجزاء بيروت الشرقية.... وجوه تائهة، غضبى، حزينة، ثكلى، فقدْت قلوبها، لاتعرف الفرح، ولا الهدوء والاستقرار، وأين ترسو وأين تكون المحطات الأخيرة‍.‏

كل مَنْ يساوره الشجن أو تهمس في روحه رغبة أو يشتهي أن يخطو على هذا الجسر يتلو الصلوات. يتضرّع بخشوع إلى السماء. يمكن أن يكون الحظ حليفه، وتنحرف عنه قنصة أو قذيفة.. يتنفس الصعداء عند نهاية الجسر، وما يكاد يقطعه حتى يبدأ يلعن الحياة، والحرب، والقتال، والتدمير. يلعن أسرار المدينة، وقدسية حضارتها، وعراقتها التي دفعته، قذفته من أحضان بيته غير الآمن....‏

هذا هو " الجسر الواطي" الجسر الذي يربط بين البيروتين الشرقية والغربية. سمي بـ " جسر الموت" لأن آلاف الأرواح زهَقَت فوقه. تحوّل إلى مدفن في عراء الموت!‏

صورة تتشبث بروحي، تضغط كآلة كلما حملت المنظار، ووجهته إليه أبحث عن أشيائي المفقودة.. أبحث عن حيّان الذي لا أستطيع القيام بأي عمل دونه..‏

كنت أبحر في نهر عريض، أقلّب التداعيات، فينهرس بعضها، ويتقطع بعضها، وتخرج أجزاء ملونة، أو محروقة، تلّف أذيالها حول عنقي، تربط لساني، تقيّد أفكاري، تحاصرها، تمنعها من المشي في أوردتي.‏

الآن توقفتُ هنيهة، حسمت موقفي، بعد أن بدا حيّان، وظهر يحمل فَرَحاً. سألته بتودد وشوق ومحبة : لماذا تأخرت حتى هذا الوقت؟ ألا تعلم أن "قا.ك" كاد أن يوجه برقية إلى جميع النقاط في برج حمود وسن الفيل، وبيروت الغربية‍‍‏

ليلتان كاملتان تغيب عنّا. ألا نستحق منك خبراً تكتبه في ورقة صغيرة أو تكلف أحد العناصر بإبلاغنا‍! سألت أبا سركيس عنك. لم يجب أبداً!‍ كنت متأكداً - الحاسة السادسة همست بالجواب- انه أوصلك، أنت وعائشة إلى بوابة المتحف. أمّنَ عليكما من الأخطار. وضعكما في سيارة صديقه، وغبتما ليلتين كانتا حالكتي الظلمة.‏

أنت الآن ليس كما عرفتك. أشعر أنك تغيرت، وتبدلت أفكارك وأحلامك. وجهك يقطر من الوجنتين. تساؤلات مخزونة في داخلك. .. تكلم يا حيّان ‍ أين عائشة؟ لماذا لم تَعَد معك؟ أين هي الآن؟ هل كرهتنا.‏

ولماذا التجأت إلى بيروت الغربية؟ لماذا اختارتها في هذه اللحظات الحاسمة من حياتها؟.‏

"كشف عن أسنانه، بابتسامة لوّنت ثغره بالألم، والتعب والخوف !"‏

- لاأريد أن أنقل آلامها إليك. يكفيك كل هذه الشهور، وأنت تحميها وتحافظ عليها كأنها جزء منك. . الآن! قررت عائشة أن تدافع عن نفسها، وتتحمل المسؤولية كاملة. حملت المنظار معها. ستنضم إلى إحدى فصائل المقاومة المسلّحة في بيروت الغربية. لقد قسّمت جسدها وروحها. تريد أن تجتاز جسر الموت ثانية. وكذلك عشاقها أرادوا العبور وراءها. رغبات مجنونة تلحّ عليهم لملاحقتها أينما ذهبت. بيروت الغربية أكثر أماناً من بيروت الشرقية. هناك القوى الوطنية تسند ظهرها، وتحميها وعدد من القطع العسكرية التابعة لقواتنا.تدافع عن هذا القسم من بيروت، تتوزع في الشوارع والأحياء، والمخيمات. . هكذا أرادت وهكذا كانت رغبتها. أن تنزع من قلبها ومن جسدها الأوجاع التي أدمتها، وأن تصلي دائماً وأبداً، ناظرة دائماً إلى الأمام دون أية التفاتة إلى خلفها.‏

وعندما وصلنا إلى الجسر، ولامست أقدامنا أرضه، تمسّكت عائشة بحافته المصدّعة، وضعت المنظار إلى رأسها. ثبتته جيداً، وبدأت تمسح ببصرها المناطق كافة. مرت على جميع الدوائر والأقواس الباردة والحامية، ابتداء من برج حمود، والدورة. بقيت دقائق تدوّر منظارها، بينما كان أبو سركيس يلّح عليها للصعود إلى السيارة. " أسرعي يا عائشة، القناصة فوقنا، وهاهم يصوبون بنادقهم إلينا، ولم يمهلونا أبداً. انهم يراقبون السيارة بدقة، ويتابعونها).‏

تحركت سيارة تحمل رشاشاً من عيار"500"، يدور باتجاهنا. كانت عائشة تحيا، وتعيش وتنبض في داخلها لحظات الوداع المرّ بعدما صبرت وقاست، وعانت من التشرد والفواجع التي تكلّست في قلبها... رغم ذلك لم تفارقها الابتسامة.‏

- تجمدّت الكلمات في حلقي - قلت: لماذا تخاطر، وتغامر بهذا المشوار؟...‏

- الآن يصعب وداعها. لوبقيت معي لما تنفست غباراً ورماداً، ولما كانت هذه الشهقات من التعجب والاستفسار ولما تحفزت أنت يا محمود وأهدرت الوقت في البحث عنَّا!‏

تمنيت أن تكون معنا، ترافقنا، وأن ترى من قرب جسر الموت، هذا الجسر " اللعين". إنه يسكر بالدماء. لكنتَ لا تقترب من مائدته العامرة بالجثث، والعظام وأقسام من رؤوس تتبعثر فوقه أو تتدثر في الحفر. والسيارات ترتاح، تنام معطوبة، تتكئ على جوانبها، أو تستلقي على ظهرها، تطلّ من نوافذها رؤوس أطفال وشباب وأمّهات. . عيون نفدت مياهها، وقطرات دماء غيّرت ألوانها الدموع. كل شيء أسود...وما أدهشني ذاك الرأس المطحون. أعتقد أن صاحبه حاول أن يدفع رأسه للخروج، ولكن باب السيارة أطبق عليه فظلَّ محصوراً، سقطت ( وجبة ) أسنانه السفلى على الأرض، وقطعة من لسانه مازالت طرية تمتصها الديدان والحشرات.‏

ماذا أقول عن جسر الموت! أعجز عن الوصف، وتعجز أحدث الكاميرات أن تقترب منه، وتأخذ صوراً، كشواهد للتاريخ.‏

جسر الموت مصيدة، كل مَنْ حاول السير فوقه، أو الاقتراب منه اصطيد بقذيفة أو قنصة. هل تذكر تلك الأيام، ومرارتها حينما اضطررنا إلى اللجوء لفصيلة الكيمياء القريبة منه؟.‏

- طال بنا السهر، وحيّان يزداد شوقاً للحديث عن هذا المشوار، وعن جسرٍ تحدث عنه العالم. رحم الله منظارك يا حيّان! لقد فقدت قطعة من حياتك، فكيف تستطيع الآن العيش بدونه؟ والبحث عن أنوار البيوت، ووجوه النساء، وعن أجسادهنَّ الراقصة أو النائمة فوق أسرّة حُبلى بالليل والغنج والهمس والمطاردة!‏

سألته : - متى تعود عروس البحر؟ متى تمشي فوق رمال الساحل، وتختال عند الغروب ضاحكة للماء والموج والشمس؟ تتفرّس بالوجوه الغريبة، بعد أن تعوّدت وجوهنا، وارتاحت لها، وإلى أحاديثنا وقصصنا، وحكاياتنا، وسهراتنا، وخلواتنا، وضحكنا، وقهوة أبي سركيس. رغم بشاعة الأحداث التي طُبعت بخاتم الازدراء، وغُمست بالدماء البريئة، رغم تصدّعه وتفككه وألمه، وحفره وتهشمّه وتكسّره وتآكل. وانهيار جوانبه، ظلَّ جسر الموت نقطه اتصال وتلاقٍ بين الفرح والحزن، وبين الموت والحياة.‏

فوق جسر الموت عبرت شاحنات كتيبتنا، القادمة من جسر " الباشا"، سن الفيل، فجسر الموت، وصولاً إلى نهر بيروت، أوالسيارات العائدة ستمر فوقه أرادت أو لم ترد ، رغبت أو لم ترغب: يشرف على نهر بيروت الجاف ذي الذقن الملساء.‏

كل الأشياء مكروهة. كل الأشياء تنتهي فوق هذا الجسر. يتواصل القنص، وتصوّب الرشاشات والمدافع والراجمات سبطاناتها إليه، ورغم ذلك كان بصيص الأمل يتقافز، وينطُّ. كان بصري، يصعد ويتسلق الدرب الناهضة، كأنها تتسلق السماء. يشرئب عنقي حاملاً رأساً ثقيلاً، دائخاً.. إلى هناك أُحدّق بعينيَّ.. تتسمر عيناي في فوهات كبيرة تشكيلية. تتابع عائشة الرصد، هناك، وفوق سطح بناية عالية، بجوار خط التماس. وأولى النقاط التي تمدّ بصرها نحوها مواقعنا، وتدقق في مرابض أسلحتنا، وأمكنة منا ماتنا تهزها أوجاع الدروب. تتسلق قلبها أحلام الأيام القادمة.‏

كنّا نسستمع إليها ونصغي إلى شفافية حديثها. تتوهج أفئدتنا. تضمر شهواتنا وتضمحل رغباتنا حين تجلس بينا. نحترم صمودها وصبرها.‏

عائشة جسد ممزّق واهن. لم تبرحها الآلام المتجمعة في ظهرها وفخذيها وذراعيها ووجهها، آلام لا تزول بهذه السرعة، ستظل آثار الرضوض زرقاء، وبقع الدماء المحبوسة تحت جلدها مكللة بالسواد إلى فترة قد تطول.‏

آلام تتداخل وتتشابك مع المتاريس وسواتر الأكياس في الشوارع والأزقة.‏

أقسمتْ ألاَّ تعود إلى الحي القديم إلاَّ بعد أن يتوحد الجسد والروح ويندمجا في كتلة واحدة. إلاَّ بعد أن تُعيد أنفاس البحر إلى قلبها الحياة، وتنظف الشواطئ والأقبية، ويخرج التلاميذ إلى مدارسهم دون خوف، ويعود الصيّادون يحملون شباكهم وصنانيرهم، ويعودون إلى أكواخ القش وإلى زوارقهم، وتُصفر البواخر حاملة الأغذية بدلاً من الذخائر والأسلحة.‏

قال حيّان: فقدتُ كل شيء. فقدت غرفتي وحبيبتي، وخسرت عائشة. اعتقدت أني سأرافقها حتى نهاية المشوار! رفضت، ورفضت. إنها عنيدة، واليوم أُصيبت بمرض، ولاتستطيع المقاومة كما كانت من قبل.‏

- لا نريد أن نهدر الوقت، لأن الغيوم تتكاثف في سماء بيروت.‏

- ألا تلاحظ أن عناصرنا يعبئون الرمال في أكياس، ويرتبونها فوق بعضها.‏

- تتكرر الأخبار والصور، ولا شيء جديد.‏

- تعزيزات جديدة في مقارّ القوى المناوئة.‏

- وسفن وزوارق ترسو في الموانئ.‏

- ستكون آخر المعارك، وبعدها الموت أو الرحيل!‏

- عناوين استفزازية، وكتّاب يشوهون الواقع، والإذاعات " الغربية" تبثّ عبر نشرات الأخبار سموماً، وأحابيل من الدجل والتهديد.‏

صدرت تعليمات جديدة بإيقاف الإجازات ومنع مغادرة المواقع مهما كانت الأسباب. وتؤكد هذه البرقية المستعجلة على ذلك " إلى جميع السرايا والفصائل. كونوا على أهبة الاستعداد. ويمنع مغادرة المكان".‏

- تبدو الاستعدادات في هذه الليلة كبيرة!‏

- انتبه. اسمع جيداً. ألا تلاحظ مثلي أن الأجواء مكهربة.‏

- أصوات طرقات صناديق خشبية، وتنزيل أسلحة وذخائر من الشاحنات.‏

- اعتقد أنها البدايات، وسنتلقى في الساعات القادمة تعليمات جديدة، وربما ستكون ساعات الحسم النهائي.‏

- تعقّدت الأمور، وآخر الأنباء. " بوارج فرنسية، وقوات المارينز تحطّ رحالها قرب البحر. وساطات جديدة. ومتابعات حثيثة من الفاتيكان. دور جديد (للسوفييت)، واقتراحات ومبادرات".‏

- المسألة أكثر تعقيداً من ذلك.‏

- طبعاً! عودة بيروت إلى أمّها الحقيقية، وعائشة إلى والديها أمر كثير التعقيد.‏

لن يكون بهذه السهولة، نزع فتيل الاقتتال، وتشكيل حكومة ائتلاف وطني، وإلغاء الطائفية!‏

- دخلت في السياسة !‏

- في الطعام سياسة! ألا تعلم!‏

- نحن نقول شيئاً والصحف تكتب وتحلل، وتخطط وتتم المشاورات وراء الكواليس.‏

- أتركنا يا محمود. "قا.ك" أرسل يطلب حضورك لأمر هام.‏

- تطابقت تصوراتي، "بريد عاجل وسرّي للغاية من " قا.ل" تماماً مع احتمال عودة القتال.‏

فككت برقية مرمزّة بالشيفرة. أعلمت " قا.ك" بها، ثم سلمته نصها مكتوباً، وطلب مني إحضار الخرائط في حالتي الدفاع والهجوم...‏

انهمك ( رئيس الأركان) في تحديد المواقع الدفاعية. كنت أراقب انشغاله، والعرق يتصبّب منه، وهو يُنقّل ويحرك ( مسطرة القائد). مستخدماً أقلاماً حمراء وزرقاء في تعيين أنواع الأسلحة الممكن استخدامها في قتال الشوارع، وراسماً الخنادق للمشاة والـ " م ر د"، ومواقع الدبابات ومرابض المدفعية. ...‏

تنفّس قائلاً: ينبغي أن توزع عناصرنا وقواتنا توزيعاً جديداً وبسرعة، وأن نعزّز مواقعنا الأمامية باتجاه الجسور والأشرفية والدورة. فهناك خطة عدوانية تُحاك ضدنا. نحن هنا. كغيمة صغيرة في سماء واسعة! علينا أن نحسب ألف حساب، وأن نأخذ الاحتياطات اللازمة وخصوصاً إمكان محاصرتنا من ثلاث جهات، عدا البحر فهو يحمينا ويسند ظهرنا. .والجسور فهي حامية لصدورنا. . وخلفنا ( الدورة )، ويمكن أن يكون تسلل القوى المناوئة منها. لذلك سنرسل فوراً جماعة الهندسة كي يلغموا منطقة الجسور والدورة، وبعض المنافذ الأخرى.‏

أكدّ " قا.ك" أن القوات المناوئة عُززت بخبراء إسرائيليين. إن الأفق المنظور، وكل الحسابات تدل أو تؤشر إلى أن احتمالات عودة القتال واردة وفي القريب العاجل.‏

صباح أسود. تمزقه القذائف. تنهمر غزيرة من كل صوب. تتراقص الأمواج على موسيقا جنائزية. ترتجّ الأبنية وتنهار السطوح.‏

فتحت الأرض أفواهها النتنة. ابتسمت الطرقات المتآكلة. الأشعة الخريفية تمرر أصابعها، وتندسّ بين بيوت بيروت الشرقية. وحين تلتقي عينيَّ وترافق الأدخنة المحزّمة بألسنة اللهب، يتلاشى نور الشمس. كأنني ألقي آخر نظرة على هذا الموقع. وهذا ما كنت أتمنّاه!‏

كنت أتمنى أن نترك هذه الجسور إلى جهة ما. فالسماء تُنزل علينا مطراً وحليّاً، وموتاً. يقذف البحر أوساخه وتتعالى أمواج المدّ. تغوز الأبنية في جوف الأرض وتبتلعها النيران. تدوي الانفجارات. تدوّخ الفضاء. تفرغ خزانات المحروقات أجوافها من البنزين والمازوت والكيروسين. سيارات محروقة. أكوام اللحم البشري والعظام الممصوصة. تتدحرج الرؤوس وتقطع كالبطيخ..‏

لن تباغتنا القذائف. دخلنا العام الثاني. تعودنا دوّيها، وكذالك الرطوبة المالحة. والنوم في الأقبية والزوايا. كنّا نتصور أن القذائف لن تصلها. وبينما تختلط الأشياء أمامنا وتدور معارك ضروس حامية الوطيس، كان حيّان متفائلاً، يخفف عنّا هذه الأعباء. يقول: يضيء الانفراج ساعات ما بعد الظهيرة. يصدق أحياناً، وأحياناً أخرى تخيب نظرته وحدسه ويضمر تفاؤله. وفي هذا اليوم بالذات كان صامتاً يتحسّس رأسه، معتقداً أن المنظار يتلبس رأسه وعينيه، ورغم ذلك تشرق ابتسامته. تطلّ علينا كأنها وردة. تترافق مع ومضات القذائف، وأزيز الرصاص. يغلق النافذة. يلتجئ إلى الزاوية لمتابعة مصادر النيران.‏

لا خوف على مصادر نيراننا وطواقم الدبابات والهاونات، إنها محمّية حماية جيدة في حفر وتحيطها جدران من أكياس التراب والرمل. علمتنا التجربة القاسية كيفية حماية مواقعنا وعناصرنا، والتقليل قدر الإمكان من عدد الإصابات.‏

مضى اليوم الأول والثاني. . والثالث. تتابعت الأيام والقتال يشتد، وفي أحيان يخفت صوته، فيسمح بالتنقل لفترات قصيرة والتحدث مع أبي سركيس الذي وإن كان لم يشترك اشتراكاً مباشراً في القتال فهو يراقب التطورات على الأرض، ويسمع الأخبار.يملك إمكانات وقدرات كبيرة على الربط بين السياسة والحرب ويخلص إلى نتائج صحيحة. يساعدنا في مراقبة تحركات القوى المناوئة. يبدي رأيه بثقة أمامنا، وبحضور "قا.ك" وبعض الضباط، لكنه يتشاءم أحياناً، ممتعضاً من هول الخسائر، وأشكال التدمير المرئية وغير المرئية. ويتساءل مقارناً بين ما يحدث في أواخر هذا القرن، وبين ما حدث في الحرب العالمية الثانية.‏

بين لحظات التفاؤل، ولحظات التشاؤم تمر سريعاً أمام نافذة ذاكرته عائشة، تدّق عليها طرقات خفيفة.‏

يبتسم أبو سركيس يمطّ رقبته، يمدّها من النافذة. يدلّي رأسه. يحني قامته. يتراجع بهدوء. تظل عيناه خلف الزجاج. يوزع بصره. ينثره وروداً على "الدورة" و" برج حمود". يتفاءل أكثر حينما تصل إليه أغنيةٌ أوصرخة أو صوت. وسرعان ما يلبي النداء، فيحمل الماء والطعام والذخائر وأدوات الإسعاف السريع. يعتقد أن شيئاً ما يحدث. وكثيراً ما يزدحم ذهنه بالأحداث فلا يعرف ماذا يفعل! يرتبك. تضغط انقباضات بقوة على عضلة قلبه. يتحرك لسانه بين فكّين واهنين. تتأوه بجانبه أم سركيس وتئنّ. لا تتجاسر أو تقوى مثل زوجها على فتح النافذة، واتخاذ القرارات السريعة.‏

أخذت مكانها في غرفة صغيرة تحت سلّم البيت. استقرت فيها. تتسلى مع القطط الهاربة من أتون الحرب. تلتجئ إلى حضنها، ومثلها مثل القطط يعرفن مصادر الأخطار والأماكن الآمنة. قطتان أليفتان، واحدة سوداء والثانية بيضاء تنتقلان بين رجليها، وترافقانها أينما تحركت. ومنذ أن تركت عائشة " برج حمود" غابت القطتان، ولم يعثر أبو سركيس وزوجه على أثر لهما. فتّشا كل الأماكن والزوايا. بحثا عنهما في الأبنية المجاورة فلم يجداهما... استفسرا تساءلا! لم يعرفا ماذا حلَّ بهما! ولا أحد يعلم حتى ذلك التاريخ ما مصيرهما!‏

نترقّب انفراجاً قريباً وعاجلاً، أو حدثاً ومفاجأة، وبرقية جديدة تضع حدّاً لآلامنا وأوجاعنا وانتظارنا. مضى عام، وعام آخر يمتد إلى اللانهاية. عناصرنا موزعة ومشتتة في مناطق متباعدة عن بعضها. عام بشهوره الاثني عشر، فتلت رؤوسنا. أشبعنا من الروائح النتنة. تقاذفتنا أمواج القلق والليل والسهر. تعرّفنا أوجاعها وبقع النزف في جسدها. تجرعنا الصعاب. تمترسنا خلف أكمات مرابض الأسلحة المختلفة. ازددنا خبرة في ترميز تقارير القتال، وفك رموز الشيفرة والرد على البرقيات الصادرة من رتب أعلى!‏

رسمنا بيروت فوق أغشية قلوبنا. نرى صورتها كل يوم على شاشات أرواحنا وأغلفة دواخلنا. حفظنا مواقعها وشوارعها وأسواقها. عيّنا إحداثياتها وحالات الدفاع والهجوم. عرفناها في الحرب وفي السلم. توطدت صداقاتنا مع أبنائها الطيبين والصادقين، ومع المدافعين عنها، وعن سعادة أهلها.‏

كانت الرياح تدفع أمامها أملاً مطوياً في رسالة ومحفوظاً في مغلف صغير. الرحيل يجوب أفكارنا وأحلامنا و يخترق تصوراتنا. لا مجال إلاَّ الرحيل، هكذا اتفقت جميع الأطراف المتنازعة!‏

كل هذه الأحداث والأمور والقضايا الصغيرة والكبيرة والمتاعب والقلق، تتجمع في أحشاء عائشة، وهي لم تغب عنها لحظة واحدة. تستمر في رصدها، وتفكر في كل الاحتمالات التي ستحدث وفي كل الجزئيات المتناثرة في حياة المدينة الملتهبة. تفكر في تأمين الخبز للناس والحليب للأطفال. تتصور أن المستقبل المقتول الضائع غير معروف الآن ولم تصدق أية تنبؤات عنه.‏

في ليلة هادئة، غيومها رقيقة بيضاء، كان القمر في مواجهتنا يمدّ ضوءه إلينا. عيناه تتسمران في وجوهنا، كأنه يأخذ صوراً للذكرى.‏

تنهّد حيّان! ارتفعت أنفاسه وهبطت خامدة، وتعبة.‏

- اتركني يا محمود، سأضع وجهي في فضاء النافذة بمواجهة البدر. إنها تقف بين وجهين. يحاصرها وجهان وأربع عيون. تزنّرها ابتسامتان بأحزمة الشوق. اتركيني أتمعّن وأدقق، فالذكريات حُبلى بالغثيان. روحي سائبة، حائرة، تائهة في رمال الضياع. البعد مرض خطير موجع ومؤلم. أكاد أفقد جزءاً حميماً من ذكرياتي. اشعر أن جمرة عاطفتي محاصرة بالدموع. تنطفئ وتتحول إلى رماد.‏

- أنظر في صفحة القمر وتضاريسه ألا ترى أهداب عائشة وعينيها الوامضتين. . وغمازاتاها تعصران قطرات الندى.‏

يضحك و يضحك. يعبّ من لفافته أنفاساً من الترقب واشتهاء الرحيل. يدير رأسه، يحركه، يوجه بصره إلى الدفء. هناك وراء خط التماس، ويتوجّس الأمل المصرور في زوايا أحشائه التي لم تطلها بعد وتصلها خيوط المرارة والنزيف. إنه يختزن في أقبية جوّانية قريبة من القلب أموراً ليس الوقت يصلح للبوح بها! ربما يتركها للرحيل، ربما يدفنها، ويلبس الثياب السوداء، علّها تغفر له، وتشفق عليه، وتعود كما كانت قريبة من القلب.‏

أسئلة تطرح نفسها عليّ: هل يسبقنا إلى جسر الموت؟ هل يقتحم بوابة المتحف؟ هل يتدحرج ويسقط في نهر بيروت ويختصر المسافة والزمن؟ ماذا يخبئ؟ هذا ما ظلّ عالقاً في ذهني ولم أجد الجواب الوافي والشافي عليه!‏

منذ الوداع الأخير أخذ جسمه ينوس ويذوي، غابت عن وجنتيه المتوردتين الحُمرة والضوء. بشرته صفراء. عيناه ذابلتان. حزينتان. ازداد استهلاكه للسجائر، وقلّ نومه. قلق وقلق. تورّم الأفكار. أحلام أجهضتها المتاعب، وتراجعت مقهورة فوجدت أرواحها ممزقة، مشردة، بلا مأوى !‏

ما رأيك بالرحيل؟‏

ها قد مضى على خدمتك الإلزامية أكثر من ثلاث سنوات. أمر التسريح محفوظ في الذاتية. فهمت من صمته المتواصل أنه يفضّل البقاء قرب عائشة. وأيقنت أنه وفي أقرب فرصة، وفيما إذا صدر أمر التسريح سينتقل إلى بيروت الغربية، ويفتش عنها.‏

هذه الليلة، ليلة مجنونة. كتبنا فيها صفحات من التأملات، بين القمر والغيم والجسر والرحيل وعائشة. ليلة يصعب رسم وجهها أو تخطيطه على الورق - من أجل بقائها محفوظة في قلوبنا وخوفاً من طلقة طائشة تمزقها - أردت أن أسجّل مذكراتي في دفتر خاص وأتركه في هذا المكان. ربما جاءت، كانت متشوقة للقراءة، فتتذكر أوجاعنا، وإذا تذكرت ستبدأ تمسد فخذيها ونهديها وجوانب الهشيم حول قلبها. ستترك شعرها يسبح في الفضاء وبعضه يعبث فوق وجهها ويتطاير. آنذاك أكون قد تركت شيئاً لبيروت بعيداً عن المهووسين والمخمورين.‏

بدأ وجه القمر يحترق، ووهج الحرائق يتصاعد ألسنة على سلالم الموت نحو السماء. غابت، بل ضاعت البقع المضيئة والعدسات التي تعكس ابتسامة الليل. يخبو الأمل المسروق من بقايا فرحنا.‏

وفي آخر نشرة إخبارية لإذاعة " مونتي كارلو". " نترككم مع مراسلنا في بيروت"‏

أغلق حيّان النافذة. بدأ المراسل يتلو التقرير. يتهدّج صوته كأنه يبكي، وبيروت تموت وتتمزق إلى أشلاء.‏

- المعارك حاسمة يا حيّان، وهذا يُضعف الأمل بالعودة أو حتى الحلم.‏

- استمع يا محمود. . تابع المذيع " بيروت تودع بيروت. هيروشيما تنتحر. تتساقط أبنيتها. الجثث تملأ الشوارع. لم يفسح المجال أمام سيارات الإسعاف والصليب الأحمر لنقل المصابين والجرحى إلى المشافي. الموتى والجرحى بالمئات. ولا توجد حتى هذا الوقت إحصائيات دقيقة. جسر الموت تنتحر القذائف فوقه وتقسمه إلى نصفين. واحد لبيروت الشرقية، وواحد لبيروت الغربية. منطقة " الدورة" تلتهب"‏

تلتزم قواتنا وتحترم وقف إطلاق النار. القوى المناوئة تستنجد بتل أبيب. ستستبدل بالقوات السورية قوات عربية.‏

سمع حيّان الخبر فقفز إلى النافذة المفتوحة. حدّق في وجه القمر، جثّة تغادر السماء إلى أي مكان آخر!‏

- لقد سقط القمر قرب بيروت، أراه ينتحر فوق البحر. لا أميزّ الآن بين الأرض والسماء، كأنهما يلتحمان في جسد واحد كعروسين. انظر الصواريخ الضاحكة والقذائف المزعورة مشحونة بـ " الفرح" وأصوات المدفعية من عيار "155 مم" قادمة من " الضبيّة".‏

- أصبحت خبيراً عسكرياً!‏

استمر المذيع في تلاوة التقرير عن ليلة حمقاء. استمر في تغطية الأحداث حتى آخر ساعة، كأنه في جنازة، يُلقي كلمة أهل الفقيد. يقف على حافة القبر.... وتابع "تجري الآن مشاورات بين الأطراف المتقاتلة، لوقف إطلاق النار. تستعد قوات فرنسية وأمريكية للتحرك إلى الشاطئ. ونقل رعاياها من العاصمة اللبنانية. قداسة البابا يوحنا يصلّي ويتضرّع إلى الله بصلوات لإنقاذ بيروت". ويختم المذيع تقريره قائلاً:‏

" يبقى الأمل عند الجميع بإيقاف الاقتتال، وأن مشاورات كثيفة ومسؤولة ستجري في صباح الغد بين ممثلين عن الحكومة السورية والحكومة اللبنانية".‏

أغلق حيّان المذياع. ساد صمت متكسّر يجثو على قدميه. استمرت طلقات تائهة تقلق أجواء المدينة الجريحة. ظلَّ جسد عائشة يتفتت. يذوب لحمها مع عظامها، ويحترق. ولافرق في مثل هذه الحالة بين الجسد والروح. الاثنان يندمجان في تابوت واحد. تستمر النيران وبقايا ألسنة تلتهم شعرها. لكن عينيها بقيتا تراقبان آخر محطات الليلة الحزينة.‏

جففت الحرائق دموعها.ارتفعت الأبخرة مرّة نحو السماء. وحين مسحت غيمة وجه القمر وغسلته، ظهرت بعض البقع، وبقيت آلاف الصور مهشمة. تتجمع بعض الغيوم من جديد حول القمر تدفن عينيه تحت أجنحتها، ثم تتقطع وتحملها الرياح وتوزعها...‏

آخر غيمة ظللت وجه القمر بفيئها حملت أخباراً مصورة، توجهت إلى الناس قائلة " تعالوا إلى بيروت. جسدها يتلظى. تعالوا أحملوا منظارها. فتشوا بأنفسكم عن المآسي. قدموا خبز الحياة إلى أطفالنا كيلا يموتوا، وتدفن هذه البذور، لأنها وبعد هذا التاريخ ستحبل بمواليد مشوهين. أما رحمها فقد جفّ. أصبح العقم الأبدي عصيّاً على الطب. ولم تَعُد الأدوية تنفع. وإذا أصبحت عائشة عقيمة فستموت بيروت ولا تزهر إلى الأبد، ويموت من بقي فيها، ولن يبقى سوى الفقراء الذين لا يملكون ثمن قوتهم اليومي".‏

تساءل حيّان :- هل نفقد عائشة طوال العمر ولن نراها أبداً؟‏

- لا : خيالك يجنح إلى التشاؤم. ستحيا من جديد!.‏

- إنها تبكي منذ زمن. وليست هذه الليلة الوحيدة المخصصة للعويل.‏

أتعتقد هكذا، دون إيجاد المبررات الصحيحة والتصورات الواقعية!‏

- لا جديد في موقفي ولن أُغيره ما دامت الأحوال لم تتغير!‏

- منذ قدومنا كانت السماء ملبّدة بالغيوم. وهذه الليلة كبقية الأيام والليالي الماضية.‏

- صحيح هذا الكلام. الآلام نفسها وإن كانت الآن أشدّ قليلاً.‏

- القمر يحترق ومازال، والغيوم تغطي وجه البحر.‏

- لاتنطبق أقوالنا أو تتوافق مع مجريات الأحداث.‏

- دائماً نقول ونتنبأ بالموت، ولكننا نفاجأ بأنها مازالت صابرة. تغسل وجهها كالعادة وتسرح شعرها، وتحمل المنظار علّها ترانا. فهي كالأم الحنون تفتش عن أطفالها وناسها وبشرها دائماً وأبداً. ففي كل مرة وبعد انتهاء المعارك كانت تحمل أوزار الموت. تحيا من جديد. يتضامن معها أناس يحبون الحياة. قلوبهم معها على الرغم من أن الكثيرين من هؤلاء لا يعرفونها، لكنهم يسمعون عنها. ويتناقلون قصص بطولاتها، وعندما يعرفون تهون أوجاعهم، وتخف مرارتهم. إنهم يرونها صورة في وجه القمر وعلى صفحة مياه البحر وفوق صخور الشواطئ وبين الجرود والوهاد والأودية وفي الفوهات السوداء وفوق جسر الموت وأمام بوابة المتحف، ومن خلال هذه الأشلاء الموزعة على الدروب والجثث الموزعة، الملقاة قربنا.‏

وعائشة تفكر أيضاً بالجميع. صاحية. فقدت أعضاءها، لكن روحها بقيت تتجسد في أهلها ومحبيها، وتكسوهم أملاً، تطمئنهم، بأن يوم الخلاص يقترب مهما كانت السنوات عجافاً وتعرفهم، بان أصعب المواقف هي الموازنة بين الحياة والموت وأي خلل بين الطرفين يعدُّ هروباً وموتاً.‏

متاهات. . قذائف تخفت أصواتها. يسقط القمر وراء جبال الصمت البعيدة، وربما يسقط في البحر ليزيل عن وجهه وجسمه غبار الحرائق ودخانها. ربما ستزور في الصباح أشعة الشمس أبعد المناطق بدءاً من بيروت الشرقية حتى أقاصي الشمال والجنوب.‏

ربما يخرج الناس من الملاجئ، وتعجّ بهم الشوارع والمقاهي والأسواق. ربما تستيقظ عائشة وتنهض من فراشها تتفقد جسدها العاري. وتقفّز بصرها في الأبنية تتابع بقايا أدخنة، ونيران.‏

ربما، هذا ما حصل، وتجمّع الجنود حول موائد الإفطار، يهمسون ويأكلون، يتجاذبون الأحاديث والطرائف. ينقلون جمرة الليلة الماضية. يتدفؤون حولها ولم يصدّقوا أن ليلة تفور وتغلي، وينصهر فيها الناس والسيارات والحجارة وكل شيء مرَّ دون خسائر تُذكر!‏



ليس من عادة الحاجب أن يدخل إلى غرفتنا دون أن ينبهنا، وكعادته أيضاً يحب المفاجآت وإحداث اضطرابات جسمية ونفسية لدى المتلقي.‏

وحينما يكون الحاجب في وضعه الطبيعي. أحتاج إلى فترة ولو كانت قصيرة نسبياً إلى الإصغاء إليه كي أستطيع تفسير ما يقول. تتصل كلماته بعضها ببعض مخلوطة ومعجونة، وكيف ولو حُمِّل خبراً لإيصاله إلينا بسرعة.‏

- أليس ما تريد إبلاغنا به أمراً هاماً!‏

- نعم !‏

- أهي مفاجأة ما!‏

التفت حيّان. أدار وجهه نحو الباب. قال: أتخسر شيئاً إذا تنحنحت! أو (رفست) بقدمك على آخر درجة من درجات السلّم.‏

سألته : - ماذا جرى؟ هل من جديد؟ وانتظرت الجواب بفارغ الصبر! بينما كان الحاجب يُهدّئ أنفاسه ويُعيدها إلى حالتها الطبيعية.‏

ناولني مغلفاً صغيراً مفتوحاً، وفي الزاوية اليمنى كُتب عبارة ( عاجل جداً)، ويُفتح بالذات من قبل المرسل إليه.‏

تقارب وجهي ووجه حيّان قرأنا الأمر بشغف وسرعة. الحاجب يصفق ويبتسم مطمئناً أرواحنا وتساؤلاتنا. شربنا الشاي معاً " آخر كأس من الشاي في برج حمود".‏

النافذة المفتوحة نحو الجهة الغربية هي الطاقة التي يستشف حيّان منها الأمل ويقرأ تأملاته الشفوية. يفتح قلبه للفضاء. يسرح بصره. يطير ويحلّق نحو خط التماس علّه يتنسَّم أخباراً جديدة قادمة من هناك. واسطته الوحيدة الهواء، يدفعه براحة يده، يحمّله رسالة شفوية وقُبلة طرية.‏

تناول المغلف وقف باستعداد وقرأ بصمت. أخذ حاجباه يتقاربان، ثم يتباعدان. رفع رأسه قائلاً: جهّزوا أنفسكم للرحيل إلى " سن الفيل". وسيتم إبلاغنا عن آخر التطورات في الساعة الرابعة والنصف من صباح هذا اليوم. ومازالت الأمور قيد البحث والتداول، لكن هاجس الرحيل يُثقل رؤوسنا ويضغط بقوة أكبر من حبّ البقاء هنا...!!‏

قمت بنسخ البرقية على الورق الطابع، وعممتها على جميع السرايا والفصائل العاملة في الكتيبة والملحقة بها. وشددت في ملاحظة كتبتها في أسفل الورقة. على الاستعداد الكامل للرحيل خلال " 24 ساعة"‏

اتصلت أيضاً بوساطة الهاتف مع قادة السرايا للحضور إلى قا. ك والتشاور معه حول هذا الموضوع.‏

بدأ حيّان يستعد والفرحة تغمره، فجميع السجلات الهامة والسرية للغاية ورتبها في صناديق حديدية وأحكم إغلاقها. رتب معه الفرش والأسرة والبطانيات وحزمناها بصورة جيدة. جمعنا أدوات الطعام والشاي والسكر والملح والبصل والبطاطا ومعلبات من الفول والحمص والبازلاء، وغيرها. وضعناها في صندوقين ننتظر ساعة الانطلاق بفارغ الصبر.‏

كان مساءً حافلاً. كل شيء تغير في لحظة، وماهي إلاّ ساعات ويكون الصباح ويحلّ الوداع. سنة وأكثر تجرعنا فيها الآلام. تآلفنا مع المكان والبيئة والناس أصبحنا جزءاً من الأشياء المحيطة بنا. ومن الصعوبة الآن أن نترك خلفنا برج حمود، وشركة التبريد، ومعمل الحديد وشركتي النسيج والأدوات الكهربائية. أن نترك الجسور ونغادر دون رجعة.‏

تسمّر حيّان ملهوفاً. أُصيب برعشة الفرح والحزن معاً، فهو من جهة سيتخلص من الأعباء اليومية الموكلة إليه، ومن جهة أخرى سيبحث بجدّية أكثر عن حياته ومستقبله. وبين الفرح والحزن تقف عائشة والمنظار والصور الجميلة المرسومة في قلبه. صور مؤطرة بالحب والخوف والمطاردة. هذه أشياء لن ينساها طوال حياته، ستبقى تُعيد نفسها، متجددة، وستظل تجربته، تجربة فريدة في نوعها ودرساً لقّنه حكايات سيحفظها ويتلوها على أبنائه في يوم من الأيام!‏

المساء حافل بالاستعدادات والتحضيرات، وسيكون الصباح تعباً وسفراً ورحيلاً ووداعاً!!..‏

حمل " قا. ك" أوراقه وتعليماته وخريطة بيروت، تركنا متوجهاً إلى سن الفيل حيث " قا.ل"، وستصدر عن هذا اللقاء آخر التعليمات.‏

ليلة حافلة بالسهر والعمل وترتيب الفرش والأسرة. وما إن أشرقت الشمس حتى كانت عناصر الكتيبة جاهزة، والسيارات محملة، والدبابات محمولة والمدافع مقطورة. تقف في المقدمة "البيتيئرّات" والمصفحات والملالات. وفي الخلف سيارات الغاز" 66" وعدد من " التاترات" _ القاطرة والمقطورة-‏

وحسب تسلسل السرايا والفصائل الملحقة " السرية الأولى - الثانية - الثالثة - سرية المدفعية - فصيلة الدبابات - الكيمياء - الاستطلاع - الصواريخ المحمولة على الأكتاف - أجنحة الحماية - المهمات - المطبخ -الإسعاف".‏

أخذت كل سيارة رقماً حسب تسلسل المسير. كانت بداية الرتل عند أول جسر الدورة، ونهايته في برج حمود. وقبل إشارة الانطلاق، اصطف الجنود حسب سراياهم وفصائلهم على جانبي الرتل بلباس الميدان الكامل، يحملون أسلحتهم الفردية، والذخائر متحفزين لكل طارئ.‏

يشوب الانتظار علامات الحذر، خاصة من مفاجأت تقوم بها القوى المناوئة وتُفشل خطة وقف إطلاق النار ويعود القتال من جديد، ولن يكون هذا العمل فيما لو حدث لصالح أي طرف من الطرفين.‏

تأكّدت أن ممثل " الجبهة اللبنانية " تعهد أمام قيادة ضباط الارتباط بأن تسعى القوات المناوئة لتسهيل عملية الانتقال وعدم عرقلة مسيرة وقف إطلاق النار، وفتح المجال أمام القوة البديلة التي ستصل إلى منطقة الجسور.‏

الأعلام السورية واللبنانية ترفرف، مثبته في السيارات، وتظهر الشمس أحياناً، وتغطس بين الغيوم في أحيان أخرى. وكانت السيارة التي تحمل الشهداء في مقدمة الرتل. سيارة مكشوفة فيها توابيت ملفوفة بأعلام البلاد. يجلس حولها الجنود وفوق كل تابوت باقة من الورود البيضاء والحمراء.‏

هدوء قُبيل لحظات الانطلاق. هدوء ساخن وحذر. أحاديث خافتة تحمل لذة الاشتياق. فمنذ أسبوعين لم يتم مثل هذا اللقاء الحميم، لأن العناصر والجماعات منتشرة، وموزعة ولم يتحقق أي لقاء يجمع كل عناصر الكتيبة مرة واحدة.‏

تتدفق بينهم أسئلة وأسئلة بحميمية صادقة وتآلف ومحبة. الذقون حليقة والوجوه تفتح صفحاتها للهواء والانطلاق. الأحذية ملمّعة، وتلمع الخوذ فوق الرؤوس وحربات الأسلحة موجهة نحو الأعلى. كانت اللحظات الأخيرة للتحرك ومغادرة المواقع الساخنة طيّبة وحارة.‏

ولم يُفاجئنا أبو سركيس بقدومه، يحمل إكليلاً من الزهور نسقته زوجه على نحو هندسي. شكلت الأزهار بفنية رفيعة كلمة " الوداع". ويلفّه شريط أسود دلالة الحزن. يحمله طفلان، يمشي خلفهما رجال ونساء من الأرمن، يتقدمهم أبو سركيس وزوجه.‏

كان "قا.ك" يرافقه ضباط من الكتيبة السعودية، يتفقدون المواقع، والأماكن التي سينتشرون فيها، تنقلهم سيارة جيب عسكرية. جولة ابتدأت من البحر حتى برج حمود، مروراً بأطراف منطقة الدورة. ونحن ننتظر وننتظر نهاية الجولة كي نتمكن من التحرك.‏

عشرات العيون تحدّق في الجسور والشوارع المهجورة، والبيوت والمؤسسات المتروكة للريح بعد أن دمرتها وسرقتها العناصر المناوئة، وحرقت العديد من أجنحتها وآلياتها والمواد الأولية في مستودعاتها.‏

وكانت شارة الصعود إلى السيارات صفرة طويلة.. أما الصفرة الثانية فعبارة عن صفرتين متقطعتين.‏

الأبصار الموزعة في كل الأماكن والمنتشرة على امتداد خط الأفق، تتسلل عبر الكوى من الدبابات والمصفحات، وتمّر على بساط الحصى المفروش أمام شركة التبريد، وتقفز بين الحفر وفوقها.‏

ودعنا أبو سركيس بكلمات دافئة ورائعة قائلاً:" عندما أزور عائشة أخبركم عنها كي تطمئنوا وترتاحوا. . أعلم أنها دخلت منذ يومين مشفى البريد، لأن جروحاً بليغة ألّمت بها، وشظايا حادة انغرست في لحمها، ودماء صبغت شعرها، وتركت دروباً جافة فوق نهديها ورقبتها"..‏

يتعالى هدير السيارات، المصفحات. يتصاعد الغبار ممزوجاً بدخان المحركات. وصعدت السيارة الأولى جسر الدورة، ثم تبعتها عشرات الشاحنات والمقطورات والمجنزرات تفتح الفضاء باتجاه طريق نهر بيروت. وفي الاتجاه الأخر من الأوتوستراد كانت القوة السعودية الرمزية تنعطف مع آخر أكواع الطريق، وتنحدر فوق جسر الدورة باتجاه برج حمود. وقبل أن يصل رتل كتيبتنا إلى جسر الموت، ويتجه نحو سن الفيل، توقفت السيارات دقائق. هبطت مجموعة من خبراء الهندسة، يرافقها " رئيس الأركان" وتفحصت الطريق، وفتشت جوانبه على مسافة عشرين متراً بحثاً عن الألغام. ومجموعة أخرى كانت تنقل أكياس الرمل المكدسة في مدخل الجسر ومخرجه والسيارات المعطوبة لتفتح الطريق وتسهّل المسير.‏

لا يستطيع حيّان إلاَّ أن يتذكر. المشاهد المؤلمة ترفع مزلاج باب الذاكرة، فتتدفق صفحات موجعة تحمل المرارة، وصفحات تحمل الجمال. وبرأيه " أن كل هذه الصفحات لا يمكن أن تتكرر ثانية، ولا يتلفها إلاّ الموت. فهي حيّة ووثابة مادام حيّاً".‏

وعند أول الجسر بدأ يهمس في أذني:‏

- من هنا تركت عائشة. من هنا ستعود إن عاجلاً أو آجلاً، تحمل المنظار وبندقية، لكنها في هذه المرة ستضع في فوهة البندقية وردة.‏

- هذا سيحصل فيما إذا تعافت بسرعة ومالت إلى الشفاء. الجرح عميق كعمق نهر بيروت ومن غير السهل أن يلتئم بسرعة. سيظلّ ينزف دماً، ويتقيّح، ما دامت تتحرك فوق السرير، ولم تذعن لنصيحة الأطباء وتخفف من حركتها.‏

مشت السيارات ببطء شديد. الحمل ثقيل، والجسر مخلخل. قواعده مزعزعة، وأرضه غير صالحة تنام فيها آلاف القذائف والشظايا. لانرغب أبداً ونحن في هذه الحالة أن يحدث أي شيء في هذه الطريق الملعونة. يكفينا جرحى وشهداء ودماء وتضحيات، وأيدي جنود مبتورة وأناس يمشون على العكازات، قُطعت أرجلهم، وجنود فقدوا في لمحة بصر. فلا تذكرني ببشاعة الموت. هذا الوحش القادم يتربّص للبشر أينما كانوا في البيوت أوفي ساحات المعارك وفي أماكن العمل وعلى مقاعد الدراسية.. ألا يكفي هذا الخوف! ألا يكفينا ما تهاطل علينا من قذائف ورصاص وصواريخ كلها تسبب الموت.. الموت والحياة قطبان للمسيرة البشرية منذ بدء الخليقة وتعمير الكون. وحياة الإنسان صفحات من التأمل للموت والحياة. مرة يلعن الإنسان الموت، ومرة يلعن الحياة. الخوف من الموت مشروع، كمشروعية الحياة. هكذا هي الحياة، ولكن ألا يودي بنا إلى الجبن والتوقف عن اتمام مسيرة الحياة. هكذا هي الحياة. هذه سنّة الدنيا!‏

تئن السيارات وهي صاعدة في الطريق. نترك على يسارنا الأبنية المنسقة على نحو هندسي من حي " النبعة" ونتوجه إلى سن الفيل. خلفنا ما تزال السيارات تنتقل بخطا وئيدة. . جنود من قواتنا في سن الفيل وقفوا على جانبي الطريق يصفقون لنا بحماسة وترحيب، كأنهم يقولون : " أنتم السابقون ونحن اللاحقون ".‏

الشمس تقف في منتصف السماء. الظهيرة حارة. تتسمّر الأشعة فوق جسر الموت تحمل دفء أنفاسنا، تاركة برودة تشرينية في أجسادنا، وبعض الخيوط الذهبية تنعكس بحب وأمل فوق صفائح السيارات وخوذات الجنود.‏

دائرة واسعة شكلها الرتل أمام قيادة اللواء، حيث الساحة تتسع لآلاف البشر. هبط الجنود من السيارات يفتشون في حقائبهم، وأكياسهم عن " المأكولات. افترشوا الأرض والأرصفة، وفتحوا علب اللحم، والبسكويت، وبدؤوا يلتهمونها بحرية تامة.‏

بينما اختفت الشمس وراء أشجار السرو والأرز، ثم ظهرت وهي تقطع الأبنية القريبة من البحر وتغطس في المياه، فتلوّنها بالزرقة الأخاذة للألباب.‏

تأملت الصور الرائعة. وقفت بجانب حيّان الذي تعافى من الهواجس واكتفى بإشعال لفافة من التبغ العربي. كنّا نتأمل في هذه اللحظات صفحة من الأسرار التي كتمها كل واحد عن الآخر، وكان الأمل يخرج دافئاً مع أنفاسنا ويتسلق دوائر دخان السجائر المتصاعدة. ومع حلول الغروب حلَّ علينا ضيفاً من غير موعد أو إعلامنا، كان الحزن يتدرج ويقطع مئات الأمتار. يشتهي اللقاء معنا، لكن عائشة التي علمتنا كيف نفرح، وكيف نحزن شقّت طريقها، وخرجت من إحدى الزوايا المضيئة، وانهالت علينا دفقات من الذكريات، وكان بداية الصفحة فيها " أبو سركيس". ذكريات تُمطر حُبّاً وصدقاً، وهذه الذكريات من الصعب وضعها في سلة النسيان أو إهمالها، ستبقى خالدة وحيّة تسري في أوردتنا. تأكل وتنام وتشرب وتفكر معنا!‏

أنوار خافتة، متباعدة تكشف بعض أسرار الظلام الذي سرعان ما خيّم فوقنا وأخذ ينسج حكايات الجنّ، يذكرنا بالغولة وحكايات الجدّات والجارات والأمهات. وأنوار معّلقة من رؤوسها على أعمدة تميل مع الريح أوتنصب قامتها حينما نقف بجانبها ونحن على أهبة الاستعداد للانتشار أو الحراسة والرصد والمراقبة. أعناقها وأعناقنا تشرئب إلى الفضاء الرحب ترسم لنا الأفق الذي يصل بين أطراف الشوارع وسطوح الأبنية. يؤشرلنا ويدلنا إلى طريق (جسر الباشا) عبر الأبنية القديمة والأزقة المبلّطة بالأحجار البازلتية، المنحنية والمتعرجة معها.‏

توزعت السيارات في عدة اتجاهات. رافقتها السرايا والفصائل لتأخذ أمكنتها الجديدة في دائرة تطوّق قيادة اللواء.‏

- ماذا يا حيّان؟ هل هي محطة مؤقتة؟ أم دائمة؟ وهل سيطول بقاؤنا في سن الفيل؟.‏

الوهن والتعب يلفان حيّان في هذا الليل. وقف في شرفة مفتوحة تطلّ على جسر الموت. تفقّد النجوم الضائعة. فتش عن القمر المختفي. ظلت غيوم سود تقف كسدٍ في الأفق السابح في سماء بيروت الشرقية. . تتالى مسلسل التمنيات " ربما نصادف غداً " الرنكوسي" ربما يصل الخبر من مشفى البربير، وربما. . بعدها أشياء غير هامة"‏

عاد من الشرفة. جلس بجانبي على أريكة. سألني: أيمكنني زيارة مشفى البربير! ألم يحن الوقت!‏

- أعتقد أن أسئلتك فيها مبالغة. ولا نعرف كيف نصل إلى المشفى! ربما خلال الأيام القادمة نتعرّف المنطقة، ومداخلها ومعابرها، عندئذ نبدأ بالتفتيش، وسنجد السُبل للوصول إليها، والتحدث معها عن قرب، ورؤيتها.‏

- هاجس يراودني، ويهزّ كياني ولا أستطيع مقاومته. أنا يا محمود أضعف من أن أواجهه. أنا جسد ضعيف وروح مرهقة. أشعر أن قلبي أصبح أكبر بكثير مما أتصور. . أسمع دقاته المتراقصة تغني في هذا الليل، وتعزف نبضاته ألحاناً، تذوب في دمائي خلجات محروقة. وسيكون في الصباح حديث آخر وشمس أخرى!‏

-4-‏

في الصباح انقشعت الغيوم عن السماء. بقايا أدخنة تحمل هموم الحرائق والناس، تدفعها رياح خفيفة، توزعها في فضاء سن الفيل. ترتفع وتتعالى ثم تتلاشى.‏

فتحت النافذة كان حيّان يتثاءب. اقترب مني وأشار إلى مكان قريب من موقعنا. .. أرض جرداء، خاوية وممسوحة مثل "الكرنتينا"، فلا أثر للبيوت والحدائق والمدارس والناس، اللهمّ سوى عظام متناثرة دُفنت في أمكنتها ونبتت فوقها الأعشاب البرية. غيرّ اتجاهه وبدأ يتذكر قائلاً:‏

- أتذكر حوادث الموت والدمار يا محمود!..‏

- الذكريات الأولى بعد وصولنا إلى كتف البحر بفترة قصيرة، اشتعلت الفياضية الواقعة على طريق الشام، حين بدأت القذائف ترعد، والرصاص يحصد الجنود في خيامهم، ومما أدى إلى قتل العشرات.. هؤلاء، فاجأوا مجموعة من عناصرنا في ليلة باردة من شهر شباط، ومنذ ذلك التاريخ توترت الأجواء واشتعلت نيران المعارك.‏

- كنت أعتقد مثلك أننا سنتجول في بيروت مُحررين من القيود، وهذا ما حصل خلال الشهور الثلاثة الأولى من وصولنا، وكانت الأمور تسير سيراً طبيعياً. تبدلت مهمتنا ووضعنا في خندق المواجهة ونحن لا نريد ذلك، فقد انتقلنا من المراقبة والفصل بين المتنازعين إلى المواجهة القسرية، وتصاعدت الأجواء، وتعكّرت بسرعة جنونية.‏

- عرفت وتيقنت أن حماية عائشة لن تكون سهلة وبسيطة. تحتاج إلى فنّ في التعامل وفنّ في التفكير، وفنّ في العلاقة مع الناس، وحتى مراقبة البحر برأيي تحتاج إلى فنّ الرؤية.‏

أحضر حيّان القهوة الصباحية، فهو لا يستطيع التحدث أو الاصغاء أو العمل، إلاَّ بعد أن يحتسي فنجانين من القهوة الحلوة، ويدخن معهما سيجارتين من الدخان العربي. يحمل نوعين الأول عربي مرطب وملّبد في علبة نحاسية، والثاني، دخان أمريكي يستخدمه أثناء العمل أوالانتقال والحركة، ويترك الدخان العربي للسهر الطويل.‏

هذه نافذة جديدة يفتحها حيّان في جدار قلبه أرى من خلالها أعماقه الجوّانية قلت: له : اُنظر، ما أجمل هذه المنطقة، وتلك المنحدرات المزروعة صفوفاً من الأشجار وما أجمل هذا التناسق الذي صنعته أيدي الإنسان، وهذا الدوّار الكبير، والشوارع العريضة، وهذه القصور الرخامية ذات السطوح القرميدية.‏

انظر أيضاً هذه الحفر الضخمة، فوهاتها واسعة كبحيرات أو فجوات خلفتها البراكين، وهذه أيضاً صنعتها أيدي الإنسان!‏

تأملّ الطبيعة، وما صنعه الإنسان، العامر بالدفء، والمزدحم بالدمار والخراب...‏

أشرت إلى مرابض المدفعية المواجهة لنا، وإلى الدبابات المسترخية في حُفرها، والرشاشات المنصوبة فوق الأكمات، والحواجز، والراجمات الجاهزة فوق السطوح، والتحصينات والهدوء المخيم، القابل للانفجار في لحظة، وزمور الخطر والبوق الذي يفتح فمه نحونا، وإلى سيارات الإسعاف، والمشفى المتنقّل، وحزمة بيضاء من الأطباء والممرضين، وإلى المطبخ وسيارات الإطعام، والمؤن والمهمات " مدنية بكاملها تضجّ بالحركة". حينئذ، تذكرت الملازم الأول " بركات" عندما أصابت عينيه شظية، وكادت أن تقتلع نصف وجهه الأعلى.‏

مدّ عنقه. طوقته بيدي من وسطه خوفاً من سقوطه من الطابق الثالث. في البناية التي التجأنا إليها والمحصورة بين شارعين فرعيين والمواجهة للشارع الرئيسي الذي يقودنا إلى طريق الشام...‏

هل تتذكر يا محمود تلك الليلة الشمطاء الملوثة بالأنين والوجع والتعب والخوف والجوع؟. الأيام تمرّ سريعة الآن. أجواء هادئة، لكنها مسكونة بالمفاجاة. لا شيء يزعجنا سوى قنصات منفردة تغني وحيدة، ولا نسمع صوتها إلاَّ حين تقترب منّا.‏

تتجمع الأفكار في الذاكرة، هذا الخزّان الذي يتسع لأوجاع جديدة، واحتمالات جديدة لبدء القتال. تمنيات تختال ضاحكة، تدور وتلفّ نسيجها حول جسدينا. أفكار تنقلنا إلى مدينتي دمشق وحلب. لحظات من الوجوم. أسئلة عديدة. . لكن ماذا بعد ذلك ؟! هل ستمتد هذه الأيام وتطول؟‏

أجاب وهو يسرّح بصره مبتعداً عن هذه المنطقة.‏

- أعتقد أنه تجاوز خط التماس وانتقل إلى مشفى البربير، وشكل البياض حاجزاً بين القلب والرؤية. صفحات تعود إليه الآن. صفحات أحلام. تركته ينساب مع أحلامه وآماله، ولا أريد أن أقطع هذا الخيط الحريري.‏

قلت لنفسي :" لا أريد أن أفتح باباً جديداً تدخل منه أوجاع الماضي وآلام الشهور في " الدورة" و"برج حمود"، ولا أريد أن أذكره بحالات الموت البطيء واتعاب الرحيل والنوم على البلاط، وقلة الماء وانقطاع الكهرباء الدائم، والخبز اليابس، والعِشرة الطويلة مع أبي سركيس. سأترك الحرية له أن يفكر وحيداً دون المساس بأحلامه، وقطع شروده بأية كلمة".‏

سأتركه يتجاذب عقب لفافته ويمضغ آخر المجاّت المكهربة، وينفث الدخان. انتقلت إلى غرفة أخرى. عُدت بعد دقائق. أحدثتُ حركة خشنة. التفت إلى الوراء.‏

سألته: ألا ترغب بالتجوال في هذا المساء بين تلك الأبنية. وبعدها نجلس فوق هذا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://ainteghat.yoo7.com
 
الرحيل‏ ...باسم إبراهيم عبدو
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات عين تغات :: الأدب والشعر ::  الروايات-
انتقل الى: